رأي
غريد الشّيخ تكتب: ذهاب وعودة

السيارة تبتلع الطريق الساحليّ بسرعة جنونية، والفتاة التي تقودها سارحة في أفكارها والتقطيب بادٍ على وجهها.. فجأة يصرخ الرجل السّتينيّ الجالس بجانبها وهو يضغط برجله وكأنه يريد إيقاف السيارة:
خفَّفت الفتاة السرعة وقالت مبتسمة:
ردّ الوالد:
الأبُ مقطّبًا:
اقتربت السيارة من مدخل المشفى، قال:
نزلا واتجّها مباشرة إلى صالة الاستقبال وسألا عن الطبيب الذي كان ينتظرهما.
خلال نصف ساعة كان الوالد في غرفة تصوير القلب (التمييل) وقد بدأت الآلات تعمل لإظهار عمل القلب وهو ينظر إليهم متحدّيًا أنهم لن يستفيدوا شيئًا من هذه الفحوصات.
خرج الطبيب من الغرفة وأخبر الفتاة أن حالة والدها معقّدة جدًّا وأن ثلاثة من شرايينه متكلّسة تمامًا ويجب إجراء عملية بأسرع وقت ممكن.
فاجأها الخبر، فهي لم تكن تتوقع أن حالته سيئة إلى هذا الحد.
توجّهت إلى غرفة والدها الذي بدأ يخبرها بالتفصيل عن هذه الآلات وعظمتها وكيف تُظهر عمل القلب وحركاته،وفجأة لاحظت أن حركة القلب على الشاشة المعلّقة فوق سريره غير طبيعية، استدعت الطبيب فورًا، وبدأت الممرضة بوضع الدواء في المصل.. عاد القلب بعد لحظات ليعمل بصورة منتظمة، تنفّست الصّعداء، وأمسكت بيد والدها الذي انتبه لما يحصل حوله فهمس في أذنها:
استأذنت من والدها وسارعت إلى غرفة الطبيب لتسأله عما حصل بالضبط، وأكَّد الطبيب أنه لا بد من عملية بأسرع وقت.
عادت إلى والدها وحاولت إقناعه أنه لا بدّ أن يبقى في المشفى فالفحوصات التي أُجريت غير كافية، ولا بدّ من فحوصات أخرى.
اعترض واستنكر وقال إن هذه الفحوصات غير ضرورية، وإنما الأطباء يريدون أن يتركوه عندهم ليأخذوا المزيد من المال.
وبعد محاولتها للإقناع رضخ للأمر، وفي اليوم التالي عرضت الفتاة الصور والتحاليل على عدد من الأطباء، ولكن الجميع قرّروا ضرورة العملية وبأسرع وقت.
بعد يومين دخلت غرفة الطبيب وأكَّدت له الموافقة على العملية الجراحية ولكن على أن لا يعرف الأب بحالته فهو سيموت حتمًا من الخوف.
قال الطبيب:
أجابت بعصبية:
في غرفة الأب، اقترب الطبيب منه وقال مداعبًا:
ابتسم وقاطعه بلهجة المنتصر:
قال الطبيب:
الرّجل مستنكرًا:
ثم يضع يديه على لوزتيه ويتابع:
غادر الطبيب الغرفة، فاقتربت الفتاة من والدها، وأمسكت يده بحنان، وقالت:
وقبل أن تكمل كلامها، تبرّع المريض في السرير المجاور وقال:
ينظر الأب إلى ابنته ويقول بعصبية:
يكرّر اسم العملية عدة مرات، تقترب الفتاة منه ممازحة:
انتبه العجوز فجأة إلى الفكرة فأعجبته.. ضحك وتوجّه إلى الرّجل بجانبه ثم إلى ابنته وقال:
يصمت للحظات ثم يقول:
تقاطعه الفتاة:
الأب هامسًا بأذن ابنته:
الفتاة مستنكرة:
بدا بعض الاقتناع على الأب وقال:
خلال اليومين التاليين وأثناء انتظار موعد العملية لم يكن يزعج العجوز إلّا منعه من التدخين، فكان يحاول أن يرشو الممرضة لتحضر الغليون له، لكنه اضطر أخيرًا أن يكتفي بشم رائحة التبغ.
في يوم العملية اجتمعت العائلة، الفتاة وأمها وأختها المتزوجة.. تململ الأب لأنه لم يرَ ابنيه المسافرين خارج البلد، لكنه قرّر أخيرًا أن هذا أفضل فهو لا يحبّ أن يراه أحد بحالة الضعف.
تدخل الممرضة منبّهة إلى ضرورة الإسراع، يستلقي الأب على العربة بعد أن حاول أن يقنع الممرضة أنه يستطيع أن ينزل ركضًا على الدّرج، يمسك بيد زوجته مشجّعًا:
تبتسم الزوجة، وتنظر الفتاة إلى عينيه وتحاول الابتسام:
يقول بصوت مرتفع والعربة متّجهة نحو باب المصعد:
نزل الجميع إلى بهو المشفى، تمر السّاعات ثقيلة، لا شيء يكسر حدّة الصمت إلا بضع كلمات يتفوّه بها بعضهم أحيانًا، أما الأم فجالسة بصمت تردّد آيات قرآنية وعيناها متّجهتان نحو المصعد تنتظر الخبر.
تثقل اللحظات.. الأفكار السّوداء تهاجم الفتاة، فجأة أحسّت أن خيمتها تتقاذفها الرّياح محاولة قلعها.. أين هو هدوءها الذي طالما أحسّت به في ظلّ والدها الحنون؟؟؟ أين يده الدافئة تضمّها، تمسح دموعًا تنتابها في لحظات القلق والحزن..
رفيقها الدائم نائم الآن بين يدي الله وتحت أدوات الجرّاحين…
قفز عقرب السّاعة المعلّقة في البهو… السّاعة تقارب التّاسعة ليلًا.. مضت خمس ساعات منذ أن دخل غرفة العمليات. فجأة ظهر طبيب البنج، ركضت إليه وقبل أن تسأله قال:
تنفّست الصُّعَداء، بكت الأم بفرح، وتوجّهت بشكرها إلى الله.
لم يُسمح لأحد بمشاهدته في اليوم الأول، ولكنّها رأته من وراء الزّجاج.. الأنابيب الكثيرة موصولة إلى فمه ومن فمه.. لم تعرفه، أنكرته عيناها ولكن قلبها هتف بفرح: إنه يتنفّس، إنه يعود إلى الحياة.
عشرة أيام مرّت كانت لحظات الفرح تعقب لحظات القلق والتوتر، وكما جاءا لوحدهما في رحلة ذاك الصباح، عادا اليوم إلى بيروت لوحدهما.
قال ممازحًا:
الفتاة ضاحكة:
يهزّ كتفيه ويقول:
ينظر إلى جرحه الكبير في صدره ويقول: