رأي

غريد الشّيخ تكتب: ذهاب وعودة

Adv

السيارة تبتلع الطريق الساحليّ بسرعة جنونية، والفتاة التي تقودها سارحة في أفكارها والتقطيب بادٍ على وجهها.. فجأة يصرخ الرجل السّتينيّ الجالس بجانبها وهو يضغط برجله وكأنه يريد إيقاف السيارة:

خفّفي السرعة يا ابنتي، فلو استمريت هكذا فلن يكون هناك حاجة للصور ولا للتحاليل، فقلبي سيتوقف حتمًا من الخوف.

خفَّفت الفتاة السرعة وقالت مبتسمة:

حسنًا، ولكن يجب أن نصل في الوقت المحدّد.

ردّ الوالد:

حسنًا سنصل، سنصل.. وحتى لو لم نصل في الوقت المحدّد، سأدعوكِ لتناول الإفطار في صيدا القديمة، هنالك يقدمون الفول بطريقة لم تذوقيها بحياتك.
حسنًا يا أبي، لا تتهرب من الفحوصات والصور، عندما ننتهي سأدعوك أنا لتناول السمك الطازج في المطعم القديم على الشاطئ.

الأبُ مقطّبًا:

ولماذا هذا الإصرار على الفحوصات.. إن قلبي كالحديد، وأعصابي قوية وأنا لا أشكو من أي شيء.

اقتربت السيارة من مدخل المشفى، قال:

أوه، إنها جميلة وكأنها فندق وليست مستشفى.
لقد أعجبتك إذن.

نزلا واتجّها مباشرة إلى صالة الاستقبال وسألا عن الطبيب الذي كان ينتظرهما.

خلال نصف ساعة كان الوالد في غرفة تصوير القلب (التمييل) وقد بدأت الآلات تعمل لإظهار عمل القلب وهو ينظر إليهم متحدّيًا أنهم لن يستفيدوا شيئًا من هذه الفحوصات.

خرج الطبيب من الغرفة وأخبر الفتاة أن حالة والدها معقّدة جدًّا وأن ثلاثة من شرايينه متكلّسة تمامًا ويجب إجراء عملية بأسرع وقت ممكن.

فاجأها الخبر، فهي لم تكن تتوقع أن حالته سيئة إلى هذا الحد.

توجّهت إلى غرفة والدها الذي بدأ يخبرها بالتفصيل عن هذه الآلات وعظمتها وكيف تُظهر عمل القلب وحركاته،وفجأة لاحظت أن حركة القلب على الشاشة المعلّقة فوق سريره غير طبيعية، استدعت الطبيب فورًا، وبدأت الممرضة بوضع الدواء في المصل.. عاد القلب بعد لحظات ليعمل بصورة منتظمة، تنفّست الصّعداء، وأمسكت بيد والدها الذي انتبه لما يحصل حوله فهمس في أذنها:

لا بدّ أن أحد المرضى حالته خطرة، من هو؟

استأذنت من والدها وسارعت إلى غرفة الطبيب لتسأله عما حصل بالضبط، وأكَّد الطبيب أنه لا بد من عملية بأسرع وقت.

عادت إلى والدها وحاولت إقناعه أنه لا بدّ أن يبقى في المشفى فالفحوصات التي أُجريت غير كافية، ولا بدّ من فحوصات أخرى.

اعترض واستنكر وقال إن هذه الفحوصات غير ضرورية، وإنما الأطباء يريدون أن يتركوه عندهم ليأخذوا المزيد من المال.

وبعد محاولتها للإقناع رضخ  للأمر، وفي اليوم التالي عرضت الفتاة الصور والتحاليل على عدد من الأطباء، ولكن الجميع قرّروا ضرورة العملية وبأسرع وقت.

بعد يومين دخلت غرفة الطبيب وأكَّدت له الموافقة على العملية الجراحية ولكن على أن لا يعرف الأب بحالته فهو سيموت حتمًا من الخوف.

قال الطبيب:

ولكن الطبّ الحديث يؤمن بضرورة إخبار المريض بحالته ليواجهها.

أجابت بعصبية:

وما فائدة أن يعرف المريض!! لقد توفّي صديق والدي منذ فترة بسيطة بعد أن أخبره طبيبه أن قسمًا من عضلة القلب متوقف تمامًا.. لم يستطع تحمّل الواقع فانسحب من الحياة قبل أن يموت من المرض.
ومن الذي سيقرّر العملية؟
أنا يا دكتور.. وسنخبره أن شريانًا واحدًا يعاني من بعض التكلس وأن الجراحة لن تستغرق أكثر من نصف ساعة.

في غرفة الأب، اقترب الطبيب منه وقال مداعبًا:

حسنًا أيها البطل، قلبك في حالة جيدة…

ابتسم وقاطعه بلهجة المنتصر:

قلت لكم هذا ولم تصدّقوني.

قال الطبيب:

ولكن هناك شريانًا واحدًا متمرّدًا ولا بد من عمل جراحيّ، هو أشبه بعملية اللوزتين.

الرّجل مستنكرًا:

عملية في القلب!!! تريد أن تفتح صدري وتتدخّل بشراييني ثم تقول عملية بسيطة؟؟؟

ثم يضع يديه على لوزتيه ويتابع:

مثل عملية اللّوزتين، ومن قال إنني أقبل أن أزيل لوزتي لأيّ سبب؟؟!!!
حسنًا الأمر أولًا وأخيرًا لك.

غادر الطبيب الغرفة، فاقتربت الفتاة من والدها، وأمسكت يده بحنان، وقالت:

حسنًا يا أبي، خفّف عصبيتك هذه…

وقبل أن تكمل كلامها، تبرّع المريض في السرير المجاور وقال:

هذه العملية هي عملية قلب مفتوح، وقد عملتها منذ سنة والآن قد تعبت من جديد.

ينظر الأب إلى ابنته ويقول بعصبية:

حسنًا… سمعتِ.. قلب مفتوح… هكذا فجأة!!!!

يكرّر اسم العملية عدة مرات، تقترب الفتاة منه ممازحة:

أيّها الرّجل العظيم، وماذا تعني عملية قلب مفتوح؟؟ هل كنتَ تريد أن تعمل عملية الزايدة؟ ماذا ستقول لأصدقائك المهمّين ولقرّاء مقالاتك عند يسألونك عن العملية.. تقول الزّايدة أو اللّوزتين؟؟؟ على الأقلّ أنت الآن تعمل عملية تليق بمقامك الرفيع.

انتبه العجوز فجأة إلى الفكرة فأعجبته.. ضحك وتوجّه إلى الرّجل بجانبه ثم إلى ابنته وقال:

نعم.. نعم.. عملية عظيمة لرجل عظيم، ليس أقل من قلب مفتوح.

يصمت للحظات ثم يقول:

ولكن لا… لا… لا بد أن أستشير عددًا من الأطباء أولًا.. سأخرج من المشفى وأقوم بأعمالي المتراكمة، ولا بدّ أن أكمل المقالات التي سأرسلها إلى المجلة المتخصصة، وعندما أنهي مقدمة كتابي الخير…..

تقاطعه الفتاة:

كل هذه الأعمال تستطيع الانتظار يا أبي.

الأب هامسًا بأذن ابنته:

سمعت من بعض المرضى هنا أن هذا الطبيب يحوّل جميع المرضى إلى الجراحة، وهم يسمونه الجزّار.

الفتاة مستنكرة:

طبعًا هذا الكلام غير صحيح، فقد رأيت عددًا من المرضى غادروا المشفى البارحة دون أن يقرر لهم عمليات.

بدا بعض الاقتناع على الأب وقال:

صحيح، الناس يحبون إصدار الشائعات.

خلال اليومين التاليين وأثناء انتظار موعد العملية لم يكن يزعج العجوز إلّا منعه من التدخين، فكان يحاول أن يرشو الممرضة لتحضر الغليون له، لكنه اضطر أخيرًا أن يكتفي بشم رائحة التبغ.

في يوم العملية اجتمعت العائلة، الفتاة وأمها وأختها المتزوجة.. تململ الأب لأنه لم يرَ ابنيه المسافرين خارج البلد، لكنه قرّر أخيرًا أن هذا أفضل فهو لا يحبّ أن يراه أحد بحالة الضعف.

تدخل الممرضة منبّهة إلى ضرورة الإسراع، يستلقي الأب على العربة بعد أن حاول أن يقنع الممرضة أنه يستطيع أن ينزل ركضًا على الدّرج، يمسك بيد زوجته مشجّعًا:

لا تخافي، سأعود بعد ساعة، وبعد أيام ستعود حياتي كما كانت، بل أفضل، فسوف أمتلك شريانًا نظيفًا وقويًّا.

تبتسم الزوجة، وتنظر الفتاة إلى عينيه وتحاول الابتسام:

حسنًا، نريدك أن تعود بسرعة.

يقول بصوت مرتفع والعربة متّجهة نحو باب المصعد:

سأعود.. سأعود.. انتظروني.

نزل الجميع إلى بهو المشفى، تمر السّاعات ثقيلة، لا شيء يكسر حدّة الصمت إلا بضع كلمات يتفوّه بها بعضهم أحيانًا، أما الأم فجالسة بصمت تردّد آيات قرآنية وعيناها متّجهتان نحو المصعد تنتظر الخبر.

تثقل اللحظات.. الأفكار السّوداء تهاجم الفتاة، فجأة أحسّت أن خيمتها تتقاذفها الرّياح محاولة قلعها.. أين هو هدوءها الذي طالما أحسّت به في ظلّ والدها الحنون؟؟؟ أين يده الدافئة تضمّها، تمسح دموعًا تنتابها في لحظات القلق والحزن..

رفيقها الدائم نائم الآن بين يدي الله وتحت أدوات الجرّاحين…

قفز عقرب السّاعة المعلّقة في البهو… السّاعة تقارب التّاسعة ليلًا.. مضت خمس ساعات منذ أن دخل غرفة العمليات. فجأة ظهر طبيب البنج، ركضت إليه وقبل أن تسأله قال:

إنه بخير، انتهت العملية منذ ربع ساعة وهم يعملون الآن على إعادة القفص الصدري إلى حالته الطبيعية.. ولكن، إنه أغرب مريض صادفني حتى اليوم، دخل العملية وهو يبتسم وقال لنا: إمّا أن أعود إلى عائلتي أو أذهب إلى لقاء والديّ، وفي الحالتين أنا الرّابح.

تنفّست الصُّعَداء، بكت الأم بفرح، وتوجّهت بشكرها إلى الله.

لم يُسمح لأحد بمشاهدته في اليوم الأول، ولكنّها رأته من وراء الزّجاج.. الأنابيب الكثيرة موصولة إلى فمه ومن فمه.. لم تعرفه، أنكرته عيناها ولكن قلبها هتف بفرح: إنه يتنفّس، إنه يعود إلى الحياة.

عشرة أيام مرّت كانت لحظات الفرح تعقب لحظات القلق والتوتر، وكما جاءا لوحدهما في رحلة ذاك الصباح، عادا اليوم إلى بيروت لوحدهما.

قال ممازحًا:

لقد تهرّبتِ من الدّعوة التي وجّهتِها لي بالتجوّل في صيدا القديمة وأكلة السمك، ولعبتِ بعقلي وعملتِ لي عملية غيّرتِ فيها شريانًا من شراييني.

الفتاة ضاحكة:

لا.. بل غيّرنا ثلاثة شرايين، صحّح معلوماتك.
لا.. لا… أنت تمزحين.
ولماذا أمزح.. بإمكانك أن ترى شريط الفيديو وتشاهد الشّرايين المغلقة.

يهزّ كتفيه ويقول:

على كل حال، ثلاثة شرايين أكثر وجاهة من واحد.

ينظر إلى جرحه الكبير في صدره ويقول:

مع أن هذه الخرائط في صدري ورِجلي تزعجني، ولكن لابأس فشراييني الجديدة تساعدني أن أحبّبطريقة جديدة أيضًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق