البريد
رأي

مصطفى الفقي يكتب: الشرق الأوسط من الحرب بالوكالة إلى المواجهة المباشرة

Adv

المنطقة دخلت مرحلة جديدة من الصراع بصدام بين إيران وإسرائيل بدلًا من الأدوار التى كانت تلعبها الأطراف الموالية والشعب الفلسطينى الخاسر الأكبر
منذ اندلعت الثورة الإسلامية فى إيران 1979 والمنطقة كلها لم تهدأ، وكأنما يقف الجميع على صفيح ساخن كما يقولون، فقد تبنى النظام الإيرانى الجديد بقيادة الملالى ما أطلقوا عليه (الدور القيادى للثورة الإسلامية الإيرانية) فى المنطقة.
وبدأت طهران تلعب دورًا متميزًا فى غرب آسيا والمشرق العربى وتضخم دورها بفضل النهج الدعائى الذى مارسته قيادات تلك الثورة فى شتى المواقع، وأصبح لها وكلاء كبار يتقدمهم «حزب الله» فى الجنوب اللبنانى وميليشيات الحوثى التى تمكنت من أن يكون لها موضع قدم على الساحة الإقليمية إلى جانب بؤر متزايدة على الأراضى العراقية والسورية.
وبذلك تعددت الساحات الإيرانية على امتداد الخريطة العربية والإسلامية وظلت القضية الفلسطينية هى (قميص عثمان) الذى يرتديه من يشاء ليستر به أغراضه الذاتية أو أهدافه المباشرة، وظلت عمليات الصدام فى المنطقة محكومة بمعادلات ثابتة فى التقدم والتراجع مع حرب إعلامية طاحنة وادعاءات بين الطرفين بأن كلًا منهما يعمل من أجل الاستقرار والسلام بينما كل الشواهد تؤكد أن القضية الفلسطينية تتوارى، وأن شعارات مرحلية هى التى تقود التيار الكاسح فى الشرق الأوسط.
ولقد توهمت إيران عند نقطة معينة أنها الدولة المتحدثة رسميًا باسم الشرق الأوسط وشعوبه وأنها صوت الإسلام ومبعوث السماء لاستعادة أمجاد السلف الصالح وإقامة دولة إسلامية كبرى ينضوى تحت لوائها كل التنظيمات والفصائل الإسلامية عسكرية أو مدنية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك بل تجاوزه لكى تصبح إسرائيل هى حائط المبكى والملاذ لكل المعادين للإسلام والرافضين للأمة العربية الواحدة التى تكون فى وضع أفضل بكثير مما هى عليه الآن.
وإذا بحثنا فى ما جرى منذ بداية الغزو الإيرانى لسماوات المنطقة بالمسيرات والصواريخ فإننا نخرج بعدد من النتائج التى يكاد يجمع عليها كل المتابعين للأحداث من كثب، الذين يدركون أن معظم النار من مستصغر الشرر، ولعلى أرصد تلك النتائج عن ذلك العمل الإيرانى الاستعراضى الرمزى فى النقاط التالية:
أولًا: إيران ألقت من دون أن تدرى بطوق النجاة لبنيامين نتنياهو وأعطته بحق قبلة الحياة، فبينما كان يسعى إلى البقاء أطول مدة ممكنة فى السلطة وتحت الأضواء فإذا الذى جرى يعطيه المبرر لمواصلة سياساته العدوانية بل يسمح له بمزيد من الغطرسة فى مواجهة الفلسطينيين والمضى نحو مزيد من قهر إرادتهم وتجويعهم بل تعذيبهم بدءًا من الطفولة البريئة وصولًا إلى الشيخوخة المعذبة.
ثانيًا: أثبتت إيران أن الملف الفارسى هو الذى يحكم دورها وليست القضية الفلسطينية، بدليل أنها تحركت فى تلك المغامرة الاستعراضية التى جرى التنسيق لها والاستئذان فيها من الولايات المتحدة ولم يحدث ذلك إلا عندما اعتدت إسرائيل بغارة جوية قاتلة على مقر القنصلية الإيرانية بسوريا، والملاحظ هنا أن طهران لم تتحرك قبل ذلك بدافع التخفيف من العبء العدوانى الذى يمارسه جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، لكن التحرك تم فقط عندما جرى المساس بأرض إيرانية تتمثل فى المجمع الدبلوماسى الإيرانى الذى جرى ضربه قبل ذلك بأيام فكانت المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل.
ثالثًا: عكفت إيران دائمًا على ردود الفعل مع إسرائيل من خلال وكلائها فى الساحات البديلة سواء “حزب الله” من لبنان أو الحوثيين فى اليمن أو بعض الميليشيات الموالية فى سوريا والعراق بينما لم نشهد لها رغبة حقيقية فى الدخول إلى أرض المعركة إلا بعد أن جرى المساس وبإصرار عسكرى على المواقع الإيرانية المباشرة، ولذلك فإننا نلفت النظر إلى أن ما جرى هو تطور ضخم فى معادلة الصراع بين إيران وإسرائيل فقد حاولت طهران ولو ظاهريًا أن تضرب فى العمق الإسرائيلى مباشرة، وأحسب أن هذه أول مرة يتعرض فيها العمق الإسرائيلى لهجمة عسكرية مباشرة حتى وإن لم يتحقق لها النجاح الكامل.
وخلاصة القول فى هذه النقطة هو أن الصدام الإيرانى -الإسرائيلى هذه المرة غير مسبوق، ويعطى قراءة جديدة لمستقبل المواجهات فى المنطقة من خلال الحرب النظامية بين الجيوش فى الدولتين من دون الوكلاء أو الميليشيات الموقتة التى كانت تعتمد عليها إيران من قبل.
رابعًا: لا بد أن نعترف بأسف وحزن أن ما فعلته إيران مهما كانت مبرراتها قد قلب موازين القوى وسحب الأضواء التى كانت مركزة على مأساة الشعب الفلسطينى والكارثة التى يتعرض لها والنكبة الجديدة التى تلوح فى الأفق حتى أصبحت أخبار العملية العسكرية الإيرانية ضد إسرائيل هى الخبر الأول الذى التفت وراءه أخبار التطورات الحزينة والاستعدادات المقلقة لاحتمال اجتياح إسرائيل لمدينة رفح وما يمكن أن يؤدى إليه ذلك من انهيار قواعد اللعبة المتفق عليها إذا جاز التعبير، والمؤسف أن ذلك يتم فى وقت حظيت فيه القضية الفلسطينية بتعاطف شديد من الشارع العادى فى دول العالم المختلفة، ولكن ما فعلته إيران سيؤدى إلى تراجع ذلك التأييد بل وإلى عودة السياسات الأوروبية إلى سابق عهدها من دعم مطلق لإسرائيل وتعاطف معها، بسبب ذلك العمل العسكرى الاستعراضى الفارسى الذى حدث.
خامسًا: ليس من شك أن فى ما أقدمت عليه إيران من دون تنسيق مع الجانب العربى والفلسطينى إنما يشير بوضوح إلى أن الأجندة الإيرانية مستقلة بذاتها وأنها تمضى وفقًا لمفهوم فارسى بحت تبدو فيه القضية الفلسطينية إحدى آليات المواجهة ولكنها ليست بالضرورة العامل الوحيد فى إحداث ذلك الصراع الذى امتد طويلًا ولا يبدو أنه سيصل إلى تسوية قريبة، ألم نتفق فى البداية على أن القضية الفلسطينية هى (قميص عثمان) يرتديه كل من أراد أن يخفى سياساته الذاتية وراء شعارات فلسطينية، وليس من شك أيضًا فى أن ما جرى قد وضع بعض الدول العربية، وفى مقدمتها الأردن وربما مصر ولبنان أيضًا فى موقف صعب ومأزق حقيقى فأصبحت ردودهم موزعة بين تطورات الوضع بالنسبة للأشقاء فى غزة وعموم الأراضى الفلسطينية والحرب الإقليمية الشاملة التى يحتمل وقوعها فى الشرق الأوسط فى ظل الظروف التى استجدت والمغامرات غير المحسوبة التى طرأت.
سادسًا: لقد نجمت عن تلك الأحداث الأخيرة احتمالات غير مستبعدة تبدأ من إمكانية نجاح الغرب فى إعلان الحرس الثورى الإيرانى منظمة إرهابية بخاصة أن إدانة إيران حاليًا أصبحت أمرًا شائعًا، وهى التى وضعت نفسها فى هذا المأزق وسمحت لأبواق الدعاية الدولية أن تفتح عليها النار بصورة غير مسبوقة، بل أضيف إلى ذلك أن من النتائج المحتملة أيضًا تعثر المفاوضات الخاصة بين طهران والغرب حول البرنامج النووى الإيرانى الذى لم تعد له نفس الأهمية بعد الأحداث الأخيرة.
القراءة المتأنية للمشهد الراهن فى الشرق الأوسط تشير بوضوح إلى عملية السيولة فى المواقف المتبادلة فى المنطقة، التى توحى بأن الرواية لم تتم فصولها بعد بل قد تكون فى بداياتها، ولا شك أن الانتخابات الأمريكية المقبلة ستتأثر بنتائج ما جرى فى الشرق الأوسط بل قد تكون عودة دونالد ترمب محتملة، لكن ما لا خلاف عليه أن وصول الجمهوريين أو الديمقراطيين إلى البيت الأبيض لن يغير كثيرًا فى ظل السباق المحموم بينهما على دعم إسرائيل والتشدق بحماية أمنها.
ولا بد أن نختتم هذا المقال بتسجيل حقيقة لا جدال فيها، وهى أن مرحلة جديدة للصراع فى الشرق الأوسط قد بدأت بالانتقال من مبارزة الطرفين من طريق الوكلاء وتعدد الساحات، التى قد تنتهى بالدخول فى مرحلة المواجهة المباشرة والإقلال من أدوار بعض الوكلاء نتيجة ما جرى، والمؤكد أن الخاسر الأكبر هو ذلك الشعب الفلسطينى المعذب الذى يدفع بدماء أطفاله ونسائه وشيوخه أغلى فاتورة فى تاريخنا المعاصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى