رأي
عبد الله العسيري يكتب: من ذاكرة تهامي في العراقي

خلال رحلاتنا القصيرة شبه الاسبوعية برّاً للأراضي العراقية في السبعينات ميلادية بحكم قربها من الخفجي كانت تمثل وجهة سياحية مفضلة حيث البساطة والماء والخضرة وحسن الاستقبال وكرم الضيافة، ورغم أن العراق متعدد العقائد والمذاهب والطوائف والأعراق ونظام الحكم حزبي بعثي إلا أن ذلك لم ينعكس آنذاك على سلوك المجتمع.
كنتفي ريعان الشباب قريب عهد بتهامة عسير حيث لا تلفاز ولا صحافة ولا نتداول الأخبار السياسية وليست من أولويات واهتمامات مجتمعنا التهامي، وكانت معيشتنا تشكل جل اهتمامنا والدعاءلوطننا وقيادتنا ونتعاطف مع الشعب الفلسطيني وندعو لهم ليستردوا أرضهم المحتلة، ولا زالت عالقة في ذهني من أيام الدراسة بالمرحلة الابتدائية أن معلما بكى في الصف وأبكانا وهو يشرح لنا بأواخر الستينات بعد النكبة من مادة الجغرافيا خريطة فلسطين.
في فبراير 1977م اتجهنا كعادتنا صوب مدينة البصرة جنوب العراق مرورا بدولة الكويت بعد أن استبدلنا العملة السعودية بدنانير عراقية من العاصمة الكويت ” الدينار ( كان ) يعادل عشرة ريالات سعودية ” يممنا صوب المنفذ العراقي صفوان والذي يبعد 50 كلم عن البصرة وكان الليل قد اسدل ظلامه ولم يلفت نظرنا كثرة السيارات العائدة بالاتجاه المعاكس ولم يدر بخلدنا مبررا أكثر من كونهم امضوا وقتا ممتعاً وتجنبوا الازدحام بعطلة نهاية الاسبوع.
امضينا ليلة هادئة بفندقنا المعتاد ” الفجر الجديد ” بشارع عشتار وسط مدينة البصرة، وتوجهنا ظهر اليوم التالي كعادتنا إلي منتزه جزيرة السندباد وهو عبارة عن مطعم ومقهى وحديقة في جزيرة صغيرة وسط شط العرب يربطه باليابسة جسر خشبي جميل وهو مكان مفضل لنا كسعوديين وبعض الرعايا العرب المقيمين بالعراق.
لم يلفت نظرنا خلو الشوارع وإغلاق المحلات التجارية في يوم حركة معتادة وعطلة نهاية الاسبوع ورغم ذلك مضينا صوب وجهتنا لتستقبلنا في المواقف عربة مسلحة وجهت مدفعها الرشاش صوبنا، موقف اقشعر له بدنيالتهامي وارتجفت فرائصي هلعاً من المشهدوابلغونا ان اليوم إضراب عام ومظاهرات احتجاجا لاعتراف السادات بالكيان الصهيوني وأن علينا مغادرة المكان فورا.
شاهدنا في طريق عودتنا لفندقنا حشودا بشرية هادرة تملا الشوارع وتعطل الحركة تحمل لافتات وشعارات تزأر كالأسود تندد وتشجب وتستنكر بعبارات لأول مرة أسمعها وكأنها تذكرني بلون ” الدّمة ” في موروثنا الشعبي وبرغم أن المنظر أطربني إلا أن فهمي للغاية من تلك الحشود كان قاصراً وتصورت أن السادات سيعدل عن قرارة وأن الاسرائيليين سيغادرون فلسطين من غير رجعة.
هذه الحادثة بقيت عالقة في ذهني وتحتفظ بها ذاكرة شيخوختي ” التهامية الأصل والمنشأ ” منذ العام 1977 م وقد أمد الله بعمري حتى كتابة هذه المقالة 2021 م دخلت خلالهامعترك الصحافة والكتابة والتحليل السياسي ولا زلت اشاهد المظاهرات ورفع اللافتات وحرق الأعلام ودوس الصور، أربعة وأربعون عاماً مضت منذ خطاب السادات حتى اليوم، ولا زلت أتابع ما تتسابق على نقلة القنوات الإخبارية وأحصي كم مظاهرة خرجت !!؟، وكم علم تم احراقه!؟، وكم صورة لشخصيات عربية وإسلامية وحتى أجنبية تم امتهانها !؟ كل ذلك كان تحت شعار نصرة فلسطين والوقوف مع شعبها العربي الأبي، ولأن العقل والمنطق يقولان أن العبرة في النتائج !!؟ فإنه يحق لشيخوختي أن تتساءل أو تطرح للعقل العربي سؤالا مباشرا: ماذا جنت الشعوب العربية من كل تلك المظاهرات ؟، ورفع الشعارات ، وما الأثر الذي تركته فيمن وجهت لأجلهمأو ضدهم تلك المظاهرات !؟.
وأتساءل بتعجب كم مظاهرة خرجت عن السيطرة وتسببت بأضرار!؟، والنتيجة لم يتحرر شبر واحد من الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة !!،ولم يرف جفن للمحتلين !!، بينما استطاع الرئيس السادات ” الواعي ” رحمه الله، من قيامهبزيارة واحدة باسترداد كامل تراب مصر الذي كان محتلا واعاد تأهيل قناة السويس وتشغيلها ووفر لخزينة الدولة المصريةوللشعب مليارات الدولارات كانت تنفق للمجهود الحربي وحرب الاستنزاف.
ألم تقرأ” القيادات الشعبوية والشعوب التي كانت تنظمالمظاهرات وتحرق الأعلام ” حينذاك، المشهد كما قرأه السادات !!؟هل قرأ الفلسطينيون المشهد متأخرين فلحقوا بالركب في اوسلو باتفاق ولو كان هزيلا ؟وفر لهم مساحة من التراب الفلسطيني ليمارسوا منها نضالهم السلمي لاسترداد باقي حقوقهم التي تضمنتها القرارات الدولية وقبلوا بها، وكاد أن يتحقق لهم ما أرادوا لولا الانقسامات والدخول بمحاور غايتها المتاجرة والمزايدة بالقضية!!.
الدعوة للتظاهر لا تنظمها ولا تدعوا لها أنظمة وازنة ولا يشجع عليها سياسيون يتصفون بالرزانة والحكمة وبٌعد النظر.
في حرب غزة الأخيرة انطلقت شرارتها من مظاهرة وما سبقها من مناوشات مع العدو الصهيوني دفع الشعب الفلسطيني دماء شهدا وجرحى عدى عن التدمير للبنى التحتية ودفع العرب في حروب 48 و 56 و 73م وما بينهما حرب الاستنزاف، أموالا وشهداء وجرحى وملياراتالدولارات لإعادة الإعماروإغاثة اللاجئين.
يجب أن نعترف بأن واقعنا الحالي، يقول أننا نعيش كعرب نكسة عربية عربية أكبر من نكسة 67 م وجرحهاأعمقحينما حمل قرار الحرب والسلم العربي فئة رهانها على المظاهرات وتأجيج المشاعر ورفع الشعارات الزائفة خدمة لمصالح وأجندة أجنبية.
محزن حالنا ” كعرب ” أن يجري كل هذا على مرأى ومسمع من جامعة الدول العربية وهيئاتها ومن ضمنها منظومة الدفاع العربي المشترك بينما من يعربدون ويعبثون بالأمن القومي العربي لا يملكون مقعداً ولو كان في حديقة مبنى جامعة الدول العربية.
المطلوب تحرك قوي وفاعل لمجلس جامعة الدول العربية بوضع خطوط حمراء للأنظمة والدول التي تأوي أو تدعم أو حتى تغض الطرف عن ممارسات جماعات ومليشيات تزعزع الأمن القومي العربي .
** عبد الله العسيري.. كاتب سعودي