
حين تمر بك أبيات يهمس لك بها ذو الرمة:
(عشية مالي حيلة ٌ غير أنني
بلقط الحصى والخطِّ في التُربِ مولعُ
أخطُّ وأمحو الخطَّ ثم أعيدُه
بكفيَ والغربان في الدار وُقَّعُ)
وسيحضر عندك بيت الأخطل الصغير:
(يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً
كعاشقٍ خطَّ سطراً في الهوى ومحا)
هنا سيجرك الناقد فيك للنظر بمثال من أمثلة تداخل النصوص (التناص)، وستغرق في نظرية نقدية ستطرب لها، لأنها تمتثل لسلطتك العقلية، لكنك تدرك أن في داخلك منزعاً ينازعك ويحرك حسك القديم المتجدد، لكي تطرب للشعر وتنساب نفسك مع جماليات القصيد، وتغرق في الدهشة. وهنا تتصارع مع ذاتك أو ضد ذاتك، وتتساءل هل العقل ضيفٌ مقبول حين تكون في حالة شعرية؟ وهل وظيفتك كناقدٍ ستصبح عبئاً عليك مثل حال النادل في المطعم حين يقدم الطعام للزبون ويجد نفسه غارقاً في روائح الطعام وتتحرك شهيته؟ لكنه يقهر سيولة لعابه ونداء معدته، ويمضي محاولاً إغماض عينيه وكتم آهاته، هذا المحروم بقرار منه وبقرار من مهنته. وكذا هي حال الناقد حين تقتحمه القصيدة وكأنها ذاك الطبق الشهي بين يدي النادل. ولكن وازعاً يمنعك مثل شرطي المرور حين يمنعك من عبور الشارع مهما يكن توقك للعبور وشغفك بكسر الإشارة.
هذه لحظة من لحظات شقاء الناقد حين يطيع عقله بشرط قتل ذوقه، ويحرم نفسه من طبق شهي بين يديه، مع أن عذابات الناقد تتنوع لأنه يتبدى في عيون الناس، وكأنه عدوٌّ للجمال وعدوٌ للمتعة بمثل ما هو معرَّض لألسنة الشعراء كما ذكر المتنبي (وعداوة الشعراء بئس المقتنى)، ولو علم الشعراء أن الناقد يلعن نفسه قبل أن يلعنوه ويعذب نفسه قبل أن يصبوا عليه نيران غضبهم، لو علموا ذلك لوقفوا طوابيرَ عند بابه لشكره على تحمل الوجع من أجل قصائدهم، ولكن أنى لهم ذاك، وأنى له أن يتوب، وكل من الطرفين شقيٌّ بمهنته وشقيٌّ بوجع النص، وإن ظهر الأمر وكأنه متعةٌ.
وختام القول مع شطر بيت لإبراهيم ناجي حيث يقول: (أين يمضي هارب من دمه)!!
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود – الرياض
نقلا عن جريدة الاتحاد