رأيفن وثقافات
د. إيمان بقاعي تكتب: الدامور والعالم والانسان في زمن كورونا

بلدة مهجورة، هكذا بدت لي الدامور البارحة وأنا أستطلع مظاهر الحياة بعد طول حَجْرٍ، وفوجئت أن بعض المحلات التي تبيع الطعام (مناقيش عبودة الشهيرة مثلًا)، أغلقت أبوابها منذ أكثر من أسبوعين، فلا غرابة إذن أن تكون كل محلات تزيين الشعر والأظافر مغلقةً إلى وقت لا يعلم إلا الله متى تفتح أبوابها، وهي التي لم تكن تستطيع أخذ موعد من إحداها قبل أسبوعٍ أو أكثر على مدى أيام السنة. أما الدكاكين، ففتحت أبوابها وأغلقتها في الوقت نفسه ببرادات البوظة، أو بطاولة تسد الباب فلا تسمح ل”الزبون” بالدخول، بل بالنظر من الخارج وطلب ما يحتاج إليه ليصله معززًا مكرمًا وهو واقف ينتظرُ البائع، وغالب الباعةِ هنا أصحاب الدكاكين وبيوتهم في المبنى ذاته. ورغم أن البائع يكون شخصًا واحدًا، ورغم أنه وحده داخل الدكان، فإنه يضع الكمامة الزرقاء ويلبس القفازات، ويسلمك أكياس أغراضك ويتبعها بكبسة (جيل) مطهر على يديه ويديك أيضا، وفي عينيه نوع من أسف خجولٍ يعبر عن قلة حيلته إزاء الحاجز الذي منعك من الدخول بحرية، فالزمن زمن الكورونا الذي قال لي أحد أصحاب الدكاكين: “دخل إلى بيتنا من حيث لا ندري”.
أما السيارات، فيبدو أنها- والتزامًا بقانون الحجر- لا تغادر البلدة، بل تدور في الشوارع مثل “الخنفسة بالطاسة”، كما كانت جدتي تقول، وربما كانت أسباب خروج سائقيها: الاستطلاع، أو شراء بعض الخضار والفاكهة- علمًا أن الدامور ثرية بالخضار والفاكهة لسهولها المزروعة والمعروفة منذ القديم، أو لرمي كيس قمامةٍ يستغل الرامي فيه خروجه فيدور في البلدة مرات، وربما يرقب سيارات أهله أو أصدقائه الواقفة أمام البيوتِ بانتظار يوم تتحرك فيه إلى الطرقات والأعمال والمدارس، حيث كانت الحياة تنبض قبل الجائحة التي طابت لها الإقامة هنا وفي العالم كله، مخترقة كل الحواجز والحدود، تطال الرؤوس الكبيرة قبل الصغيرة، وتقهقه بجنون “ديكتاتوري”، أو “عادل”، والديكتاتورية والعدالة هنا أصبحت وجهة نظر، لا يمنعها من التحرك إغلاق مجال بري او بحري أو جوي، راسمة على الوجوه خوفًا ممتزجًا بالأمل من خلال نشر قانون يطال الجميع، ولا مهرب منه، حتى لو كانوا أغنياء جمعوا المال ليؤمّنوا لهم ولأولادهم وأحفادهم عيشة كريمةً لم يستطع الفقراء- ولن يستطيعوا حسب رأيهم- أن يؤمّنوها. وحتى لو كانوا في بروج مشيدة، حيث يهربون وأولادَهم وأحفاداهم إليها كما لا يستطيع الفقراء أن يفعلوا، فلا أبراجَ تحمي أصحاب البيت “الوضيعة”، وحتى لو خططوا- إن أصابهم مرضٌ أو أصاب أولادهم وأحفادهم- أن يغادروا البلاد إلى بلاد متطورة قادرة بمستشفياتها الخاصة الغالية على منحهم الشفاء، في حين يبقى الفقراء عند أبواب المستشفيات “العامة” منتظرين دورهم في الحصول على الدواء.
في زمن كورونا، لا شيء يخضع للتخطيط.
في زمن كورونا، انقلبت الموازين كلها، وصار المنطق غير منطقي، وغير المنطقي صار منطقيًّا، والعبرة للإنسان الذي اجتاح القيم والطبيعة وخبأ ما خبأ للمستقبل آخذًا من درب أخيه الإنسان ما كان يجب أن يعطيه إياه!
فهل تعلّم كورونا ما لم تعلّمه المدارس والجامعات وما لم يعلمه علم الاقتصاد وعلم السياسة وعلوم الجشع؟
هل تعلّم كورونا أن التخطيط ينسفه فايروس غير مرئي، فيخرج كل من جمع المال أمواله ثمن شفاء قد يناله فقير لا قرش في جيبه، ينتظر برضا عطاء الله لا عطاء العبد؟
—
عن الكاتبة
*PhD in Arabic and Children’s Literature.
*Member of the Lebanese Writers’ Association.
*Nationality: Lebanese.
*University instructor of Arabic and Children’s and Young Adults Literature in Lebanon.