البريد
الرئيسيةفن وثقافاتمنوعات ومجتمع

محمد هلال يكتب عن الصورة السينمائية في ديوان «بخطىً مثالية كالفضيحة» لـمصطفى عبادة

Adv

”بخطًى مثالية كالفضيحة “ أحدث ديوان شعري للكاتب الصحفي مصطفى عبادة.. الشاعر الذي يحاول جاهًدا متدثًرا بقراءات كثيرة، وحيوات متنوعة مابين السياسة ومذاهبها وقضايا الثقافة وهموم رجل الشارع و…و… ، وقبل كل ذلك ما يلهمه به شيطانه الشعري ، أن يكون له صوته الذي يميزه وُيعرف عنه وبه، يأتي ديوانه الجديد ليؤكد هذا التميز ..
عدة ملامح تتميزبها قصائد مصطفى عبادة ، لعل أبرزها تلك اللغة السينمائية التي يعتمدها، بمعنى أوضح الكتابة بالصورة المجسدة، فيجد القاريء نفسه أمام مشاهد تتكون أمامه وكأنها شريط سينمائي يشاركه وجدانه.. تميز بتلك الخاصية الفحول من شعراء العرب الأقدمين وخير مثال معلقة إمريءالقيس“ قفا نبك….“ .

يحوى الديوان تسع قصائد، تحمل الأولى اسم “ دروبار يمور“ تلك الممثلة والمنتجة الأمريكية الجميلة جًدا ، التعيسة جًدا ، في الوقت نفسه .. حياتها معبأة بالأفراح والأتراح، فهى ممثلة عالمية فائقة الجمال بل كانت ملكة جمال الكون ، لكنها عاشت 17 قصة حب فاشلة ، وأشياء أخرى.


تصف نفسها بأنها تعيش أغرب حياة .. لماذا هذه السيدة الأمريكية تحديًدا ليتخذها الشاعر “ موديل شعري“ ؟ ربما للحالة الغامضة الصارخة الوضوح التي تناسب ذلك المناخ الإبداعي الذي تلبس الشاعر في هذا الديوان .. وحتى يشاركنا قاريء تلك السطور مانزعمه لابد وأن نذكر بعض الأمثلة.. لنرى كيف تتجلى الصور السينمائية منذ اللقطة الأولى في القصيدة الأولى التي يقول فيه :
أنا الجندي الخائب في التنشين
يقال لي دائًما
إلى الأسفل قليًلا
أعلى سنتيمترات
كن في المنتصف تماًما،
عوقبت في أول تدريب
بطلوع الجبل خمس مرات
وقيل لي
فكر في دروباريمور
ليهون الأمر
تلك الحالة النفسية السئية لمن يتم إعداده لحماية الوطن“ الجندي“ ربما لايعادل خيبتها إلا خيبة دروباريمور رغم توفر أسباب السعادة . ألا ترى أن المقطع
ًرا . فيكمن فيه مايمكننا أن نسميه ـــ بلغة السينما ـــ السيناريو..
السالف ذكره تتوفر فيه “ السردية الشعر ية“ ــ إذا صح التعبير ــ حتى يمكننا تصويره فيلًما قصي
وإذا كان أحد تعريفات السينار يو أنه فن تتابع الصور.. ففي هذا المقطع نرى جندًيا هزيًلا، مرتعش اليد، لايجيد التصويب المطلوب.. نسمع أصوات التوجيه
واللوم والتعنيف ثم الجزاء الرادع بصعود الجبل والهبوط خمس مرات.. ثم صوت ناصح ـــ أراه صوت الشاعر في نفسه ــ يقول:
فَّكر في دروباريمور
ليهون الأمر .
لايقف الأمر عند تلك “ السردية“ السينمائية في مفتتح القصيدة ، بل تأخذنا لقطات السيناريو لنسمع صوت الزوجة الذي لم يسمعه الشاعرأو الجندي الفاشل،
ونراها تعاقبه بحرق كتبه بسبب عشقه المجنون لدروبار يمور، وقد وصفتها بالساقطة ـــ فهى عدو الزوجة، والعدو رخيص الدم والسمعة والسيرة ــ ثم برع
الشاعر في استبطان مشاعر المرأة وأمضى اسلحتها حين تهدد زوجها: “ وَدْعها تأخذ مكاني في الليالي الطويلة “ .
ذكرني هذا المشهد بمقطع في المسرحية الشعرية “ الأميرة تنتظر“ للعظيم صلاح عبد الصبور..
“ رجل قال لزوجته : البدر يفوقك حسًنا.. قالت : إذهب للبدر وحل سراوله، بدًلا أن تأتي إلّي وتحل سراويلي “ .
وهنا تفتح قضية “ الإروتيكية“ في الأدب بكل قوالبه، والشعر خصوًصا ذراعيها حتى يبدو بياض أبطيها، وتلفح وجوهنا سخونة أنفاسها الممتعة.. لتؤكد أن
الإشارات الجنسية قرينة الإبداع مذ عرف الإلهام عقول البشر وقلوبهم، ولما ، لا، والمرأة تجمع تحت جلدها وفي ملامحها وتضار يسها كنوز الجمال والدلال، وكل
متناقضاته أيًضا.. كذا لايخلو من تلك القضية مؤلفات الفقهاء والمفكر ين والمؤرخين ، وإن شئت قل : لاتخلو منها الكتب المقدسة.. فلا غرابة ولا عجب أن نراها
تسري في عروق قصائد الديوان وشراينه ولكن بحرفية غير مبتذلة .
ًرا عاجًزا أمام “ المدير“ الذي يلتهمها أمام عينيه.. وينطق
ونمضي مع صور سيناريو سردية القصيدة ، فيطل وجه الجندى العاشق للفاتنة “ درو“ حزيًنا كسي
عجزه الكسير:
“ الناس أنانيون
يقفون بيني وبينها
بلا رحمة
ويفتح الشاعر ذاكرته المنبطحة أمام عشق الفاتنة الأمريكية نيابة عن ذاكرة العالم الثالث العاشق الذليل المغلوب ، فيذكر أحداث 11 سبتمبر ومافعله فينا أهل
”درو“ ويهتف :
أنِت خراب بلادي
وتمضي بنا مشاهد القصيدة بالعديد من الصور، حتى يكتمل العمل الشعري السردي، السينمائي . أرى من تمام المتعة الفنية أن يتوفر للقاريء الإطلاع عليها .
لعل من ميزات قصيدة النثر عند مصطفى عبادة ، بأنها تعتمد الإحساس الإنساني وخصوًصا الحز ين منه بنعومة بالغة، موسيقى داخلية تمنح النص عمًقا راقًيا
وصوًرا تتجسد أمام القاريء، ربما يتوحدا في كثير منها. لذا فهى تطلب مشاعر القاريء قبل ثقافته المعلوماتية.
تتكرر تلك المشاهد السينمائية في قصائد الديوان لتقف قصيدة النهاية ”زجاج“ خير شاهد على تلك الحالة ، بين البطل الرافض ـــ وكل الأبطال رافضون ـــ فها
هو المشهد الدرامي يتصاعد وهو يواجه الزجاج بحقيقته العارية في تحد صارخ لينزل الستارعلى اللقطة الأخيرة، ليبرز سؤال من هو الزجاج؟ ــ فقد عرفنا
الشاعر المقهور فينا أو المقهور ين فيه ــ ،هل الزجاج هو الغرب الضحوك الذي يجرب فينا أسلحته الجديدة، فيروساته الُمخلقة ــ قيل كثير عن “ كورونا“ في هذا
الشأن ــ هل الغرب الذي يأخذ رمالنا لنرى فيها وجوهنا وضآلتنا ونحن نمجد صنعها ؟ العديد من الأسئلة تنتجها تلك القصيدة القليلة الكلمات المتباينة المعاني

الشاعر مصطفى عبادة
الشاعر مصطفى عبادة

مثل آبار ماء الصحراء العميقة الغائرة :
أيها الزجاج:
أنا أكرهك
ليس لأن يدي تنزلق عليك
فهى تنزلق على أشياء أخرى
أكثر سخونة منك
وأشد إثارة
وليس لأنك شفاف وسطحي
وبلا عمق
وليس لأن ظهرك حين يعتم
يفضح الوجوه في المرايا
وليس لأن المرايا كاذبة أو صادقة
فأنا لا أستعملها
وليس لأن القاتل ــ دائما ــ له عينان زجاجيتان
كذلك اللص والكذاب وبعض الداعرات
أيها الزجاج:
ليس لأن الجيد منك بلجيكي أو أمريكي
محبب أو أملس ملون أو سادة
وليس لأن أصلك رمل
وأنا أرهب الصحراء
موطن الذئاب والحيات
والمكارين الخبثاء
البدو قساة القلب
بإمكاني أن أعدد كل سوءاتك حتى غد
أيها الزجاج

أنا أكرهك وفقط .

ملمح آخر في ديوان “ بخطى مثالية كالفضيحة“ وهو الهم الوطني في قصيدة مصطفى عبادة، وهو ميزة جيده جًدا، فالمبدع غير المهموم بحب وطنه ــ
والحب جالب الأحزان في بعض الأحيان ــ لاتكتمل قيمته الإبداعية والإنسانية.. وكبارالمبدعين العالميين ينحازون في كثير من مؤلفاتهم لأوطانهم ، وده عنك
قول من يقول : أن قصيدة النثر لاتحتمل مثل هذا التوجه ، فيجب عليه مواجهة قصوره الفني في ذلك ..
فهل نصفق للأيروتيكية في الأدب ولا نصفق لعشق الأوطان؟!
يتجلى هذا الهم المحبوب في قصيدة “ عمر“ ..والمقصود هنا المجاهد العربي الليبيي العظيم عمر المختار.. وتأخذنا القصيدة فوق العشب والرمل والمقابر
لتصفعنا بسؤال استنكاري يعلم شاعره ـــ الجندي المهزوم الذي لايجيد التنشين ــ إجابته:
لماذا تتذكر عمر المختار الآن
إنه عدو رجولتك مثلي
انسه لو سمحت
كيف صار مامات من أجله؟
من يحمل نظارته الآن ؟
الإجابة واضحة جًدا أمام القاريء الذي يجيد النظر لخر يطة الوطن الكبير .. العالم بأحوال العباد ومن يديرون شئون الأوطان .
وننتقل من الوطن الكبير إلى هموم الوطن الصغير، وهو مايحيط بالإنسان من أصدقاء ورفقاء طر يق وكم كانت القصيدة التي يحمل اسمها الديوان “ بخطى
مثالية كالفضيحة“ سخية العطاء وهى تكشف الغطاء عن زيف الكثير من أفراد الوطن الصغير ــ الأصدقاء ــ لا لمكاسب سيحققونها نظير انسحاقهم الإنساني
وإنما نذالة لوجه الشيطان كشجرة الزقوم .. يقول:
رأيُت اليوم
كل الوجوه التي لا أريدها
كأَّنما على صلة
ليأخذوا ماتبقى من ذكرياتهم
كل امرىء وجد جزءه ناضًجا
وجراحه
أين حنانهم في أول العلاقة
إذ يهلون للمرة الأولى
تعجبك جيادهم
فرٌح باستقبالهم
ماالذي يدهشك
في التماعة النصل المخبأ؟
لو فقأت الرضى عرفت
إنما تدربت ثلاثين عاًما
على الحنو
أيها الفرح بالأصدقاء
تجَّهْز .

إذا أردنا الحديث عن قصائد الديوان التسعة بماتستحق فلن يسعفنا إلا عدة مقالات طوال .. فالعديد منها تبوح بالكثير من الدلالات الموحية بمواطن الجمال
والجلال الشعري .. قدمنا ماتيسر لنا منه، وفي الختام هنيًئا للشاعر صاحب الصوت المتميز مصطفى عبادة، تميزه.. وهنيًئا لنا بمتعة شعرية فنية راقية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى