البريد
الرئيسيةفن وثقافات

مصطفى عبادة يكتب: كاتانجا.. قدرة الفن التعويضية

Adv

-١-

إن أميز ما يستطيعه “على حسن”، هو قدرته على خلق عالم وأجواء، تبدو غرائبية للوهلة الأولى، لكنها في صميم الواقع وعمق الذات، عوالم وأجواء تخلط بفن بين الذاتي والموضوعي، لا يأتي هذا العالم أو الجو العام للعمل الأدبي – عند “على – من اللغة، أو من طريقة التناول، بل من اختيار الموضوع واصطياد الفكرة، من الذهن المتقد، الذي يذهب إلى الماضي، ولا يبقى فيه، ويقيم في الحاضر، ويعترض عليه، وينظر إلى المستقبل، ويصر على الإسهام في صنعه، بعد ذلك تأتى اللغة كعامل مساعد وفقط، وهى بهذا المنحى.

مصطفي عبادة
مصطفي عبادة

وبما أنها ليست هدفا في حد ذاتها، تمثل مدخلا حيويا للفهم، بدقتها ووضوحها، ولأن العالم الذي يختاره “علي حسن” سواء في “أنا مي زيادة” أو “كاتانجا.. الخمر والبارود”، لصيق به، أو يتجلى على ذاته، يكون دائما غير مغرق فى الخيال، أو مجلوب من دنيا “الكومكس” والأفلام والقراءات، وغير مدفوع “بموضة” أو موضوع سائد لدى الكتاب، هذا العالم الذى يصر على حسن أن يعالجه، يحمل فى داخله بذرة خطورته، فما الذى سوف يضيفه السارد، ولا تعرفه أنت عن هذا الواقع، كما يحمل فى الآن ذاته، مكمن جماله وأدبيته، الخطورة تأتى من وهم التسجيلية التى تنفيها قدرة الروائى على رؤية الغريب والمخفى من هذا الواقع، رؤية ما لا يُرى وما يشكل غرائبيته الخاصة وأدبيته الخاصة.

-٢-

“كاتانجا”.. الخمر والبارود؛ ليست رحلة تخص “لوممبا” وحده، ولا تخص فترة زمنية فى تاريخ الكونغو، ليست عذاب شخص مناضل، تقاطعت بالضرورة وبحكم الطبيعة والحتم التاريخى والإنسانى، مصالحه مع مصالح أعداء وطنه، فعذبوه وأهانوا بشريته، وهى ليست رواية عن الخيانة الفكرية والسياسية من رفقاء الدرب والسلاح، وليست استسلاما من مهانين مذلين لاحتياجاتهم الآنية، التى باعوا وطنا وتاريخا من أجلها، وطنا يباع من أجل أن تسكن معدة، أو يرتاح بدن فى فراش وثير، من أجل نموذج لا تتيحه إمكاناتك الذاتية كفرد، ولا يوفره لك وطنك كمكان، فيكون المستعمر هو البديل، وهذه النفسية هى ما يطلق عليه باحثونا رواية ما بعد “الكولونيالية”. كاتانجا: ليست كل ذلك، بل هى رحلة الإنسان منذ بدء الخليقة حتى نهاية الأرض، رحلة المقاومة والعذاب، الحب والنضال، حسرة القلب والخيانة، انحطاط المستعمر، ونبل من يقاوم وصناعة الهدف وخسته وتسامى من يتشبث بالأرض، إنها رواية الصديق الذى انقلب عدوا، وليس أقدر على إلحاق الأذى من صديق انقلب عدوا، إنها قصة للإلهام والشجاعة والذكاء الفطرى، تستحضر شرارة ما يعنيه أن تكون إفريقيا فى القرن العشرين، قرن المقاومة والاستعمار، قرن الدم..

مقاومة “الكونغو” للاستعمار البلجيكى فى عوالم جديدة حية، نكتشف فيها واقعنا وعالمنا، وطبيعة صراعاته، صحيح أن مظهر الصراع اختلف، لكن أساليب السيطرة والتدجين واحدة ومستمرة منذ البندقية، حتى “تويتر” و”فيس بوك”، وهذا ما تكشف عنه التفاصيل الدقيقة، فى ثنايا الرواية، لعمل الآليات الاستعمارية التى واجهها “باتريس لوممبا”.

هذه الرواية غارقة في محبة الذات الوطنية والشوق للحرية والاستقلال، وفى أحيان تبدو كما لو أنها لحظة اليأس من الماضي والرفق به والحنو عليه، رواية عن الخيانة وبشاعة التابع وخزيه.

يبدو أن “على حسن” قرر بهذه الرواية أن يخوض فى المنطقة العمياء فى التاريخ، كما فعل وخاض فى مناطق النفس الإنسانية العمياء، فى “أنا مي زيادة”، لكى يظهر من خلالها قناعاته وإيمانه بمبادئ لم يعد لها وجود فى المجال العام، قرر أن يحنو بروحه – وهى أضعف الإيمان – على قيم الحرية والتحرر، قيم الاستقلال والعدل، النبوغ والمكافأة، الخيانة والعقاب، قيم كراهية السجن والوجوه الشائهة العميلة، أو الوجوه الوضاءة المنافقة.

على حسن
على حسن

 

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق